الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال ابن العربي: قَوْله تَعَالَى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ} فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {مَا خَطْبُكُمَا} إنَّمَا سَأَلَهُمَا شَفَقَةً مِنْهُ عَلَيْهِمَا وَرِقَّةً؛ وَلَمْ تَكُنْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَوْ فِي ذَلِكَ الشَّرْعِ حَجَبَةٌ.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: {قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} يَعْنِي لِضَعْفِنَا لَا نَسْقِي إلَّا مَا فَضَلَ عَنْ الرِّعَاءِ مِنْ الْمَاءِ فِي الْحَوْضِ.وَقِيلَ: كَانَ الْمَاءُ يَخْرُجُ مِنْ الْبِئْرِ، فَإِذَا كَمُلَ سَقْيُ الرِّعَاءِ رَدُّوا عَلَى الْبِئْرِ حَجَرَهَا، فَإِنْ وُجِدَ فِي الْحَوْضِ بَقِيَّةٌ كَانَ ذَلِكَ سَقْيَهُمَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ بَقِيَّةٌ عَطِشَتْ غَنَمُهُمَا؛ فَرَقَّ لَهُمَا مُوسَى، وَرَفَعَ الْحَجَرَ، وَكَانَ لَا يَرْفَعُهُ عَشَرَةٌ، وَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ رَدَّهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُمَا لِأَبِيهِمَا: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}. اهـ..قال الماوردي: قوله: {وََجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى}.قال الضحاك: هو مؤمن آل فرعون. وقال شعيب: اسمه شمعون. وقال محمد بن اسحاق: شمعان. وقال الضحاك والكلبي: اسمه حزقيل بن شمعون. قال الكلبي: هوابن عم فرعون أخي أبيه.{قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقتُلُوكَ} فيه تأويلان:أحدهما: يتشاورون في قتلك، قاله الكلبي، ومنه قول النمر بن تولب:الثاني: يأمر بعضهم بعضًا بقتلك ومنه قوله: {وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُم بِالْمَعْرُوفِ} [الطلاق: 6] أي ليأمر بعضكم بعضًا وكقول امرىء القيس: قوله تعالى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ}.قال عكرمة: عرضت لموسى أربع طرق فلم يدر أيتها يسلك.{قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} وفيه وجهان:أحدهما: أنه قال ذلك عند استواء الطرق فأخذ طريق مدين، قاله عكرمة.الثاني: أنه قال ذلك بعد أن اتخذ طريق مدين فقال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل أي قصد الطريق إلى مدين، قاله قتادة والسدي. قال قتادة: مدين ماء كان عليه قوم شعيب.قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} قال ابن عباس: لما خرج موسى من مصر إلى مدين وبينه وبينهما ثماني ليل ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر وخرج حافيًا فما وصل إليها حتى وقع خف قدميه.{وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ} أي جماعة. قال ابن عباس: الأمة أربعون.{يَسْقُونَ} يعني غنمهم ومواشيهم.{وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ} فيه وجهان:أحدهما: تحبسان، قاله قطرب، ومنه قول الشاعر: الثاني: تطردان. قال الشاعر: وفيه ثلاثة أقاويل:أحدها: أنهما تحبسان غنمهما عن الماء لضعفهما عن زحام الناس. قاله أبو مالك والسدي.الثاني: أنهما تذودان الناس عن غنمهما، قاله قتادة.الثالث: تمنعان غنمهما أن تختلط بغنم الناس، حكاه يحيى بن سلام.{قَالَ مَا خَطْبَكُمَا} أي ما شأنكما، وفي الخطب تضخيم الشيء ومنه الخطبة لأنها من الأمر المعظم.{قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} والصدور الانصراف، ومنه الصّدر لأن التدبير يصدر عنه، والمصدر لأن الأفعال تصدر عنه. والرعاء جمع راع.وفي امتناعهما من السقي حتى يصدر الرعاء وجهان:أحدهما: تصونًا عن الاختلاط بالرجال.الثاني: لضعفهما عن المزاحمة بماشيتهما.{وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} وفي قولهما ذلك وجهان:أحدهما: أنهما قالتا ذلك اعتذارًا إلى موسى عن معاناتهما سقي الغنم بأنفسهما.الثاني: قالتا ذلك ترقيقًا لموسى ليعاونهما.{فَسَقَى لَهُمَا} فيه قولان:أحدهما: أنه زحم القوم عن الماء حتى أخرجهم عنه ثم سقى لهما، قاله ابن إسحاق.الثاني: أنه أتى بئرًا عليه صخرة لا يقلها من أهل مدين إلا عشرة فاقتلعها بنفسه وسقى لهما. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ولم يستق إلا ذنوبًا واحدًا حتى رويت الغنم.{ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} قال السدي: إلى ظل الشجرة وذكر أنها سَمْرة.{فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} قال ابن عباس: قال موسى ذلك وقد لصق بطنه بظهره من الجوع وهو فقير إلى شق تمرة ولو شاء إنسان لنظر إلى خضرة أمعائه من شدة الجوع.قال الضحاك: لأنه مكث سبعة أيام لا يذوق طعامًا إلاّ بقل الأرض؛ فعرض لهما بحاله فقال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} فيه قولان:أحدهما: شبعة من طعام، قاله ابن عباس.الثاني: شبعة يومين، قاله ابن جبير. اهـ. .قال ابن عطية: {وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى المدينة يسعى}.وروى ابن جريج أن اسم الرجل الساعي {من أقصى المدينة} شمعون، وقال ابن إسحاق: شمعان.قال الفقيه القاضي أبو محمد: والثبت في هذا ونحوه بعيد.{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)}.ولما خرج موسى عليه السلام فارًا بنفسه منفردًا حافيًا لا شيء معه، رأى حاله وعدم معرفته بالطريق وخلوه من الزاد وغيره فأسند أمره إلى الله تعالى و{قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل} وهذه الأقوال منه تقتضي أنه كان عارفًا بالله تعالى عالمًا بالحكمة والعلم الذي آتاه الله تعالى، و{توجه} رد وجهه إليها، و{تلقاء} معناه ناحية، أي إلى الجهة التي يلقى فيها الشيء المذكور، و{سواء السبيل} معناه وسطه وقويمه، وفي هذا الوقت بعث الله تعالى الملك المسدد حسبما ذكرناه قبل وقال مجاهد: أراد ب {سواء السبيل} طريق مدين وقال الحسن: أراد سبيل الهدى.قال القاضي أبو محمد: وهذا أبدع ونظيره قول الصديق عن النبي صلى الله عليه وسلم: هذا الذي يهديني السبيل الحديث، فمشى عليه السلام حتى ورد {مدين} أي بلغها، ووروده الماء معناه بلغه لا أنه دخل فيه، ولفظ الورود قد تكون بمعنى الدخول في المورود، وقد تكون الإطلال عليه والبلوغ إليه وإن لم يدخل فيه فورود موسى هذا الماء كان بالوصول إليه، وهذه الوجوه في اللفظة تتأول في قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} [مريم: 71]، و{مدين} لا ينصرف إذ هي بلدة معروفة، والأمة الجمع الكثير، و{يسقون} معناه ماشيتهم، و{من دونهم} معناه ناحية إلى الجهة التي جاء منها فوصل إلى المرأتين قبل وصوله إلى الأمة وهكذا هما {من دونهم} بالإضافة إليه، و{تذودان} معناه تمنعان وتحبسان، ومنه قوله عليه السلام «فليذادن رجال عن حوضي» الحديث، وشاهد الشعر في ذلك كثير، وفي بعض المصاحف {امرأتين حابستين تذودان} واختلف في المذود، فقال عباس وغيره {تذودان} غنمهما عن الماء خوفًا من السقاة الأقوياء، وقال قتادة {تذودان} الناس عن غنمهما، فلما رأى موسى عليه السلام انتزاح المرأتين {قال ما خطبكما} أي ما أمركما وشأنكما، وكان استعمال السؤال بالخطب إنما هو في مصاب أو مضطهدٍ أو من يشفق عليه أو يأتي بمنكر من الأمر فكأنه بالجملة في شر فأخبرتاه بخبرهما، وأن أباهما {شيخ كبير} فالمعنى أنه لا يستطيع لضعفه أن يباشر أمر غنمه وأنهما لضعفهما وقلة طاقتهما لا يقدران على مزاحمة الأقوياء وأن عادتهما التأني حتى يصدر الناس عن الماء ويخلى، وحينئذ تردان، وقالت فرقة كانت الآبار مكشوفة وكان زحم الناس يمنعهما، فلما أراد موسى أن يسقي لهما زحم الناس وغلبهم على الماء حتى سقى، فعن هذا الغلب الذي كان منه، وصفته إحداهما بالقوة، وقالت فرقة: بل كانت آبارهم على أفواهها حجارة كبار وكان ورود المرأتين تتبع ما في صهاريج الشرب من الفضلات التي تبقى للسقاة وأن موسى عليه السلام عمد إلى بئر كانت مغطاة والناس يسقون من غيرها وكان حجرها لا يرفعه إلا سبعة، قاله ابن زيد، وقال ابن جريج: عشرة، وقال ابن عباس: ثلاثون، وقال الزجاج: أربعون، فرفعه موسى وسقى للمرأتين، فعن رفع الصخرة وصفته بالقوة، وقيل إن بئرهم كانت واحدة وإنه رفع عنها الحجر بعد انفصال السقاة إذ كانت عادة المرأتين شرب الفضلات، وقرأ الجمهور {نسقي} بفتح النون، وقرأ طلحة {نُسقي} بضمها، وقرأ أبو عمرو وابن عامر {حتى يَصدُر} بفتح الياء وضم الدال وهي قراءة الحسن وأبي جعفر وقتادة، وقرأ الباقون {يُصدِر} بضم الياء وكسر الدال على حذف المفعول تقديره مواشيهم وحذف المفعول كثير في القرآن والكلام، وهي قراءة الأعرج وطلحة والأعمش وابن أبي إسحاق وعيسى، و{الرعاء} جمع راع، و{تولى} موسى عليه السلام إلى ظل سمرة قاله ابن مسعود، وتعرض لسؤال ما يطعمه بقوله: {رب إني لما أنزلت إليَّ من خير فقير} ولم يصرح بسؤال، هكذا روى جميع المفسرين أنه طلب في هذا الكلام ما يأكله، قال ابن عباس: وكان قد بلغ به الجوع واخضر لونه من أكل البقل وضعف حتى لصق بطنه بظهره، ورئيت خضرة البقل في بطنه وإنه لأكرم الخلق يومئذ على الله، وروي أنه لم يصل إلى مدين حتى سقط باطن قدمه، وفي هذا معتبر وحاكم بهوان الدنيا على الله تعالى. اهـ..قال ابن الجوزي: {وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى المدينة يسعى}.وأقصى المدينة: آخرها وأبعدها، ويسعى: بمعنى يُسرع.قال ابن عباس: وهذا الرجل هو مؤمن آل فرعون، وسيأتي الخلاف في اسمه في سورة [المؤمن: 28].فأمّا الملأ، فهم الوجوه من الناس والأشراف.وفي قوله: {يأتمرون بك} ثلاثة اقوال.أحدها: يتشاورون فيك ليقتلوك، قاله أبو عبيدة.والثاني: يَهُمُّون بك، قاله ابن قتيبة.والثالث: يأمر بعضهم بعضًا بقتلك، قاله الزجاج.قوله تعالى: {فخرج منها} أي: من مصر {خائفًا} وقد مضى تفسيره [القصص: 18].قوله تعالى: {نجِّني مِنَ القومِ الظالمين} يعني المشركين أهل مصر.{ولمَّا توجَّه تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} قال ابن قتيبة: أي: تِجَاهَ مَدْيَن ونحوَها وأصله: اللِّقاء، وزيدت فيه التاء، قال الشاعر:فاليومَ قَصَّرَ عن تِلْقَائك الأَملُ أي: عن لقائك.قال المفسرون: خرج خائفًا بغير زاد ولا ظَهْر، وكان بين مصر ومَدْيَن مسيرة ثمانية أيام، ولم يكن له بالطريق عِلْم، ف {قال عسى ربِّي أن يَهْدِيَني سَواءَ السَّبيل} أي: قَصْدَه.قال ابن عباس: لم يكن له عِلْم بالطريق إِلاَّ حُسْن ظنِّه بربِّه.وقال السدي: بعث الله له مَلَكًا فدلَّه، قالوا: ولم يكن له في طريقه طعام إِلا ورق الشجر، فورد ماءَ مَدْيَن وخُضرةُ البقل تتراءى في بطنه من الهُزَال؛ والأُمَّة: الجماعة، وهم الرعاة، {يَسْقون} مواشيهم {وَوَجد مِنْ دونهم} أي من سوى الأُمَّة {امرأتين} وهما ابنتا شعيب؛ قال مقاتل: واسم الكبرى: صبورا والصغرى: عبرا {تذودان} قال ابن قتيبة: أي: تكُفَّان غَنَمهما، فحذف الغنم اختصارًا.قال المفسرون: وإِنما فَعَلَتا ذلك ليَفْرُغ الناس وتخلوَ لهما البئر، قال موسى: {ما خَطْبُكما} أي: ما شأنكما لا تسقيان؟! {قالتا لا نَسْقِي} وقرأ ابن مسعود، وأبو الجوزاء، وابن يعمر، وابن السميفع: {لا نُسقي} برفع النون {حتى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، وأبو جعفر: {يَصْدُرَ} بفتح الياء وضم الدال، أي حتى يرجع الرِّعاء.وقرأ الباقون {يُصْدِرَ} بضم الياء وكسرالدال، أرادوا: حتى يَرُدَّ الرِّعاء غنمهم عن الماء، والرِّعاء: جمع راعٍ، كما يقال: صاحب وصِحاب.وقرأ عكرمة، وسعيد بن جبير، وابن يعمر، وعاصم الجحدري: {الرُّعَاءُ} بضم الراء، والمعنى: نحن امرأتان لا نستطيع أن نزاحم الرجال {وأبونا شيخ كبير} لا يَقْدِر أن يَسْقيَ ماشيته من الكِبَر؛ فلذلك احْتَجْنَا نحن إِلى أن نسقيَ، وكان على تلك البئر صخرة عظيمة، فإذا فرغ الرِّعاء مِنْ سَقيهم أعادوا الصخرة، فتأتي المرأتان إِلى فضول حياض الرِّعاء فتَسْقيان غنمهما.{فسقى لهما} موسى.وفي صفة ما صنع قولان:أحدهما: أنه ذهب إلى بئر أُخرى عليها صخرة لا يقتلعها إِلا جماعة من الناس، فاقتلعها وسقى لهما، قاله عمر بن الخطاب، وشُريح.والثاني: أنه زاحم القوم على الماء، وسقى لهما، قاله ابن إِسحاق، والمعنى: سقى غنمهما لأجلهما.{ثم تولَّى} أي: انصرف {إِلى الظِّلِّ} وهو ظِل شجرة {فقال ربِّ إِنِّي لِمَا} اللام بمعنى إِلى، فتقديره: إِنِّي إِلى ما {أَنْزَلْتَ إِليَّ مِنْ خَيْرٍ فَقيرٌ} وأراد بالخير: الطعام.وحكى ابن جرير: أنه أسمع المرأتين هذا الكلام تعريضًا أن تُطْعِماه. اهـ.
|